الغابات والبحيرات والترسب الحمضي
--------------------------------------------------------------------------------
على الرغم من أن العالم البريطاني سميث ابتدع المصطلح ",المطر الحمضي", منذ قرن مضى، فإن العلماء لم يدركوا إلا من العقود القليلة الماضية
أن الحموضة المنتشرة على نطاق واسع في التساقط تسبب أضرارا في أماكن بعيدة عن مصدرها. فلقد أضر الترسب الحمضي بالحياة في البحيرات والأنهار، وعمل على تآكل مواد البناء، وعجل من تبلية المنشآت على امتداد مساحات شاسعة من العالم. أضف إلى ذلك أنه أصبح المتهم الرئيسي في انحطاط صحة بعض أنواع أشجار الغابات في أمريكا الشمالية وأوروبا.
ينشأ الترسب الحمضي عندما تنبعث الملوثات، خاصة أكاسيد النيتروجين والكبريت، من المداخن والمسابك ومخارج العادم في السيارات إلى الجو، وتتحول هذه الأكاسيد في سلسلة من التفاعلات الكيميائية مع مواد أخرى في الجو إلى أحماض تسقط ثانية على سطح الأرض مذابة في المطر والثلج والضباب، أو على شكل غازات أو دقائق جافة.
ويرجع السبب في نشوء التوترات السياسية حول الترسب الحمضي، في غالبية الأحوال،
إلى أن تأثيرات الملوثات الناتجة في إحدى المناطق يمكن أن تحس في منطقة أخرى.فحموضة البحيرات في أقصى شمال ولاية نيويورك تنجم نسبيا عن الانبعاثات من مداخن محطات توليد القوى في وسط الغرب. والأحماض التي تتساقط مطرا في اسكندناوه تنشأ أصلا في أوروبا الوسطى أو المملكة المتحدة، وحوالي 50% من الترسب الحمضي الذي يسقط شرقي كندا يأتي من الولايات المتحدة الأمريكية.
ولقد اكتشف الترسب الحمضي حديثا في مناطق صناعية شملت غرب أمريكا الشمالية والصين واليابان والاتحاد السوفيتي وأمريكا الجنوبية. ولقد قيست مستويات عالية لأكسيد النتريك وغازات أخرى ثبت أن لها دورا في الترسب الحمضي ، في بعض مناطق أفريقيا غير كثيفة التصنيع. كما أن الحرائق التي يشعلها الفلاحون لإزالة الغابات والسافانا يمكن أن تكون مصدرا للترس الحمضي.
والسبب الرئيسي في الترسب الحمضي في العالم الصناعي هو أكسيد الكبريت الذي ينبعث إلى الجو عندما يحرق الفحم كوقود أو عندما تستخدم خامات عالية الكبريتيد في المسابك. وتختلف كمية الكبريت من الفحم من ركام لآخر. وكلما ارتفع المحتوى الكبريتي في الفحم، زاد الإسهام في الترسب الحمضي إذا ما استخدم هذا الفحم وقودا. وليس الفحم جميعه غنيا بالكبريت. ففحم وسط غرب الولايات المتحدة به نسبة عالية من الكبريت – حوالي 3% وزنا، وفحوم سلسلة الجبال الأبلاشية به كبريت قليل نسبيا، حيث يقل الكبريت فيه عن 1%. وستقيم الصين، المقدمة على خطط طموحة للتنمية الصناعية، مصانع ومحطات قوى مستخدمة احتياطاتها الضخمة من الفحم الغني بالكبريت مصدرا للوقود. والفحم الذي به نسبة عالية من الكبريت يحرق أيضا في بقاع أخرى من العالم مثل بلاد أوروبا الشرقية.
وتأتي أكاسيد النيتروجين في المرتبة الثانية كمصدر هام للمركبات المحمضة. وهي تنبعث كمنتج ثانوي عند احتراق الوقود الحفري كالبنزين والنفط والغاز الطبيعي. وتتوقف الكمية المنبعثة على عوامل متنوعة، وبوجه خاص ، درجة حرارة الاحتراق. هذا، وسيارات الركوب وغيرها من المركبات الأخرى تبعث بجزء كبير من أكاسيد النيتروجين التي تسبب في الترسب الحمضي. كما تسهم المصادر الثابتة، كمحطات توليد القوى، أيضا بكميات ذات شأن من أكاسيد النيتروجين في الجو.
ولقد أدرك العلماء والجماهير في أوروبا خلال الستينات والسبعينات والسبعينيات من هذا القرن أن كمية الأحماض المذابة في التساقط تتوقف على اتجاه الهواء المنساب فوق أوروبا وإنجلترا ومواعيده وسرعته. أما في أمريكا الشمالية وبقية العالم فقد استغرق بدء الاهتمام وقتا أطول. فطوال أوائل السبعينيات كان الدافع إلى إجراء البحوث في تلوث الهواء بأمريكا الشمالية هو الاهتمام بتأثيرات الملوثات الجوية المحتملة في صحة الإنسان أكثر منه القلق من ناحية التأثيرات في النظم الإيكولوجية في الماء وعلى البر. وتدريجيا أصبح واضحا أن التغيرات في تركيب التساقط الكيميائي كان لها تأثيرات هامة، واقعية أو محتملة، في النظم الإيكولوجية. ومنذئذ قام العلماء بإجراء ملايين القياسات وإصدار آلاف المنشورات لفهم أسباب وعواقب الترسب الحمضي.
إن التحميض المسبب للضرر البيئي يأتي، كله تقريبا، من ثاني أكسيد الكبريت وأكاسيد النيتروجين المنطلقة على شكل غازات عند احتراق الوقود الحفري، خاصة الفحم. وتتحول هذه الأكاسيد في الجو، في سلسلة من التفاعلات الكيميائية، إلى حمض الكبريتيك وحمض النتريك ثم إلى كبريتات ونترات.
ويتم هذا التحول بمعدلات تحكمها الظروف البيئية مثل ضوء الشمس ودرجة الحرارة والرطوبة والسحب ووجود مواد كيميائية أخرى مختلفة. والحمضان يذوبان في قطيرات الماء وتعود إلى الأرض مطرا في النهاية.
إن العلميات التي تحكم سرعة ترسب الأحماض والمواد المحمضة على الأرض والمدى الذي تصل إليه رحلتها من الجو معقدة وتتوقف على الأحداث المتورولوجية وخصائص سطح الأرض والشكل الذي يكون عليه الملوث بالذات. وفي الأحوال النموذجية، تبقى الملوثات في الجو مددا تتفاوت من ساعات إلى أسابيع، قد تقطع فيها مسافات تتفاوت من بضعة كيلومترات إلى ما يزيد على الألف كيلومتر.
وعلى الرغم من أن القلق من الترسب الحمضي قد انصب على الأشكال المائية (ومن هنا جاء المصطلح المطر الحمضي)، فمن الممكن أن تتسرب الأحماض ",جافة",. وقليل ما هو معلوم عن هذه العلمية ، ويرجع السبب في ذلك ، بصفة رئيسية إلى صعوبة قياسها، ولكن الأدلة تبين أنه عندما تلامس المواد رطوبة، فإنها تحدث التأثيرات البيئية نفسها التي تحدثها الأحماض الساقطة مع المطر أو الثلج أو الضباب. أضف إلى ذلك أن الكبريتات التي تتخذ شكل جسيمات رقيقة تعمل على استطارة الضوء وتقلل مدى الرؤية.
تقاس درجة الحموضة بالرقم الهدروجيني pH ، على مقياس يمتد من الصفر إلى 14، ويتوقف على تركيزات أيونات الهيدروجين الموجبة الشحنة في المحلول. فالمحلول المتعادل كالماء المقطر رقمه الهدروجيني 7 . والمحاليل الحمضية تحتوي على تركيزات عالية من أيونات الهيدروجين يستدل عليها بقيم منخفضة للرقم الهدروجيني. فكلما انخفض الرقم الهدروجيني ارتفعت الحموضة.
ومعظم المياه الطبيعية، بما في ذلك المطر والثلج، حمضية نوعا ما، بسبب المواد الكيميائية الموجودة طبيعيا. وفي المناطق النائية التي لا يصلها الكبريت والنيتروجين البشري المنشأ، يتفاوت الرقم الهدروجيني للمطر عادة من 5.2 إلى 5.4 . ولقد سجلت قيم أقل من 5 في حالات متطرفة. ولكن الأحماض العضوية والكميات الصغيرة من حمضي النتريك والكبريتيك الموجودة طبيعيا، والمسببة لهذه الحموضة، لا تأتي بالعواقب نفسها التي تؤثر في الحياة في البحيرات والأنهار وفي الأرض اليابسة، كالتي تنجم عن الأحماض المعدنية التي يحتوي عليها الترسب الحمضي.
ولقد انتهى العلماء إلى أن أيونات الهيدروجين الزائدة في التربة، نتيجة تلقيها جرعات من الترسب الحمضي، تحل محل عناصر أخرى تشمل المغذيات مثل البوتاسيوم والمغنيسيوم والكالسيوم، وتعوق نمو النباتات. كما أن تركيزات الهيدروجين العالية تحرر أيضا الألومنيوم، وهو فلز يوجد طبيعيا في التربة، ويمكن أن يكون ساما للنباتات حالما يتحرر، وذلك بتعويق قدرة الجذور على امتصاص الماء والمغذيات.
ومن الممكن أن تسبب حموضة الماء في أن تفقد البحيرات والمجاري المائية قدرتها على تهيئة أسباب الحياة للأنواع التي ازدهرت في ظروف أقل حموضة.
أما كيف تستجيب النظم الإيكولوجية لزيادة المواد الحمضية، فلذلك يتوقف على المعدل الذي تترسب به وعلى التركيب الجيولوجي للمنطقة. فماء المطر الذي يدخل في بحيرة أو نهر يسقط بعضه على سطح الماء مباشرة، ويسقط معظمه على التربة المحيطة بالمسطح المائي، ويجري على السطح أو خلال التربة. وتتفاعل المعادن الموجودة في التربة مع أيونات الهيدروجين فتعادل حموضة الماء وهو في طريقه إلى البحيرة أو النهر. ويمكن لمقدرة التربة التنظيمية هذه أن تبطئ تحميض البحيرات والأنهار أو تحول دونه، ولكن هذا لا يحدث إلا حيثما يحتوي نوع التربة بالذات على الأنواع المناسبة من المعادن. فالتربة الرملية أو الرقيقة والمجواه بدرجة عالية هي ، عموما، حمضية من قبل، وعلى ذلك فكل ما لديها هي قدرات محدودة على معادلة تأثيرات الأحماض المترسبة من الجو.
ويمكن أن تتعادل الحموضة في البحيرة أو النهر نفسيهما إلى مدى أبعد بالتفاعلات الكيميائية المعادلة للأحماض والمعادن الموجودة في الماء والرواسب، ولكن بعض هذه المقدرة يمكن أن يستنفد أيضا بالمدخلات الغزيرة وبمضي الوقت.
وهناك مناطق شاسعة في أمريكا الشمالية وأوروبا حساسة للترسب الحمضي بسبب تركيب التربة. ويوالي الباحثون اكتشاف زيادة حساسية مناطق أكثر وأكبر مما كانوا يعتقدون قبل عشر سنوات مضت. وتوجد هذه المناطق، فيما يتعلق بالولايات المتحدة، في الجزء الشمالي الغربي، وكذلك في منيسوتا وويسكونسن وميتشجان العليا وأجزاء في الجنوب الشرقي، وفي مناطق جبلية كثيرة في الغرب. ولقد كشفت المسوحات في كندا عن أن نصف البحيرات البالغ عددها 700.000 بحيرة في المقاطعات الشرقية الست حساسة للغاية للترسب الحمضي. وكذلك الحال مع مساحات شاسعة في مقاطعات كندا الغربية والشمالية الغربية، ومع معظم شمال أوروبا ومساحات شاسعة من آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية.البحيرات
إن الافتقار إلى الاستقصاءات البيولوجية الشاملة للمناطق الكبيرة الحساسة للأحماض، بما فيها أمريكا الشمالية، يعوق الباحثين في محاولتهم فهم الكيفية التي يؤثر بها التحميض في النظم الإيكولوجية. فكما يوضح دافيد و. شيندلر، عالم البيئة بجامعة ألبرتا بادمونتون – كندا، ",نحن لا نعلم على الإطلاق ما كان لدينا ونتيجة لذلك، فلا يمكننا معرفة ما فقدنا",.
ولقد ارتكزت دراسات تأثيرات التحميض، إلى حد بعيد، على أرصاد متعلقة ببحيرات لا يعلم إلا القليل عن حالتها قبل أن يصبح لتلوث الهواء تأثير كبير فيها. ونتيجة لذلك، فإن كل ما سجل عن الكثير من البحيرات المعلوم أنها تأثرت، هي التغيرات الواضحة فقط مثل اختفاء أسماك الصيد الكبيرة (من فصيلة السلمون). وتبين الاستقصاءات أن حساسية البحيرات للترسب الحمضي تختلف من مكان لآخر، وحتى البحيرات المتجاورة يمكن أن تختلف في استجاباتها.
إن معظم الاستنتاجات المتعلقة بتأثيرات الترسب الحمضي في النظم الإيكولوجية في البحيرات مستمد من الدراسات المعملية والتحميض الصناعي لبحيرات تجريبية. والبحيرات الواقعة في مناطق ملوثة أو قريبا منها قد تتأثر بالعديد من الملوثات الكيميائية الصادرة من مصادر متنوعة بما في ذلك الاستخدامات الترويحية والزراعة وأعمال المناجم القريبة. وتبعا لذلك، فهناك أماكن قليلة لا تزال محتفظة بحالتها التي لم تفسدها الحضارة والتي يستطيع العلماء دراسة تأثيرات الحموضة فيها بعيدا عن هذه المؤثرات الأخرى.
وإدراكا لهذه الحاجة، خصصت الحكومة الكندية جزءا من شمال غرب منطقة البحيرات التجريبية بأونتاريو. ويتحكم العلماء في 46 بحيرة ومستجمعات مياهها، حيث يجرون التجارب التي تساعد على فهم ما يحدث عندما تتغير كيمياء البحيرات. ولقد أمدت إحدى هذه البحيرات ",البحيرة 223", ببصائر قيمة بوجه خاص.
تقع البحيرة 223 في منطقة تربها دقيقة رملية مغطاة بغابات بدائية من الصنوبر الأمريكي والبيسية السواء. وهى تتلقى من الترسب الحمضي، ومستجمع المياه المحيطة لها ضعيف القدرة على معادلة الأحماض. وبعد قضاء عامين في الدراسات الأساسية بدأ الباحثون تحميض البحيرة تجريبيا في عام 1976، بإضافة حمض الكبريتيك على التتابع حتى هبطوا بالرقم الهيدروجيني للبحيرة، بحلول عام 1983 إلى 5 بعد أن كانت قيمته الأصلية 6.8. وفي عام 1985، أفاد شيندلر وزملاؤه بأن الأنواع التي تعيش في البحيرة عانت تأثيرات التحميض مبكرا أكثر مما كان متوقعا وأن التغيرات كانت واسعة النطاق حتى عندما كان الرقم الهيدروجيني عاليا نسبيا. ولم تتغير الإنتاجية البيولوجية الإجمالية ولا متاحية المغذيات تغيرا جوهريا، ولكن امحت حفنة من الأنواع التي كانت غذاء لجمهرة التروت السليمة المزدهرة في البحيرة عند قيم للرقم الهيدروجيني وصلت ارتفاعها إلى 5.8 . وعند بدء الدراسة كانت البحيرة تمد نحو 220 نوعا بأسباب الحياة. وعندما وصل الرقم الهيدروجيني إلى 5 كان ما تبقى أقل من 150 نوعا. (ويقول شيندلر، إن حتى هذا الرقم مضلل لأن نصف هذا العدد تقريبا كان كائنات مقاومة للأحماض حلت محل تلك التي أخرجتها الحموضة قسرا). وبعد 8 سنوات، كان التروت – قمة السلسلة الغذائية في البحيرة – قد توقف عن التكاثر وارتفعت معدلات الوفيات ارتفاعا كبيرا.
ويعتقد العلماء أن عدد الأنواع التي في البحيرة يهبط باستمرار بزيادة الحموضة وانخفاض الرقم الهيدروجيني إلى ما بين 6.5 و7، وأن أنواعا كثيرة من التي تلتهمها الأسماك العليا في السلسلة الغذائية تفقد عند قيم الرقم الهيدروجيني القريبة من 6. وهذا القطع في السلسلة الغذائية يعني أن الأسماك الكبيرة المفترسة يمكن أن تموت جوعا قبل أن تتضح تأثيرات التحميض السامة المباشرة.
ويقول شيندلر ", إن ما نفقده ليس مئات الألوف من الأنواع، بل نحن نفقد المئات، ولكن بالحساب بدلالة الجزء من الأنواع الذي يجعل النظم الإيكولوجية تؤدي وظائفها، ف‘ن الحجم النسبي لاستنزاف الخصوبة البيولوجية في بحيرات الماء اليسر المحمض ربما يكون كبيرا كما هو في المناطق المدارية تماما",.
وتصح هذه النتائج كما هي عندما يقدر الباحثون الدرجة التي يحتمل أن يصل إليها استنزاف الخصوبة البيولوجية في البحيرات الواقعة في شمال غرب ووسط غرب الولايات المتحدة. وهذه التقديرات ممكنة لأنه على الرغم من وجود بيانات أقل من ما يمكن الاستدلال به على عدد الأنواع المفقودة، فإن العلماء يرون أن باستطاعتهم استخدام البيانات الكيميائية الحالية للتنبؤ بالجزء النسبي من الأنواع التي تفقد عندما تتحول بحيرة من أي مستوى للرقم الهيدروجيني إلى آخر أوطأ منه. ويتنبأ شيندلر وزملاؤه بأن أكثر نصف البحيرات الواقعة في أشد بقع المنطقة تحميضا قد فقد ما بين 40% و 50% من الأنواع مثل الرخويات والحشرات. وهذه خسائر على الدرجة نفسها من الأهمية للنظام الإيكولوجي (ولو أنها غير مرئية ) كالخسائر في سمك الصيد الكبير.
وتدل دراسات الحالات ا التي أجريت بعناية فائقة للأنهار، على الرغم من قتلها، على أن الحياة التي تعولها هذه الأنهار قد تكون أشد حساسية للتحميض من الحياة في البحيرات.
وبينما تقدم بعض بحيرات أونتاريو مثالا لم يحدث تحت ظروف التحميض المتطرف، توجد بحيرات أخرى تمكن من دراسة ما يحدث عندما يقل الترسب الحمضي. ففي عام 1972، خفضت الانبعاثات من مسبك كونيستون، التي كانت تسهم بكميات ضخمة من ثاني أكسيد الكبريت، بما يزيد على 60%، واستبدل بالمداخن الثلاث التي كان ارتفاعها أقل من 200 متر، مدخنة واحدة ارتفاعها 381 مترا. وكان تأثير هذه التغيرات مجتمعة أن أتيحت للحياة في البحيرات القريبة من سدبري فرصة للعودة إلى حالتها السوية . (ولقد خفضت كندا إجمالي انبعاثاتها بمقدار 50% من مستوى انبعاثات عام 1980، وكان التخفيض في أونتاريو بنحو 60% من هذا المستوى. فما أن تناقصت إضافات المواد الحمضية حتى زادت القلوية وارتفع الرقم الهيدروجيني سريعا، ولكن بيولوجيا البحيرات كانت أقل مرونة، أي أبطأ في العودة إلى الحالة الأصلية. فبينما استعادت بعض الأنواع حالتها الطبيعية سريعا واستأنفت التوالد عندما ارتفعت مستويات الرقم الهيدروجيني إلى ما بين 5.4 و 5.6، بقيت أنواع أخرى على ما هي عليه ولم تحذ حذوها. هذا، ولم تعد جميع الأنواع التي امحت من البحيرة، وقد يتطلب الأمر تموين البحيرات بالأسماك لكي تعود إلى حالات قريبة من الحالات الأصلية.
الغابات
إن الضرر الذي يلحق بالأشجار من نوبات الجفاف والأعاصير والحشرات والأمراض قديم قدم الغابات نفسها. ونقل الملوثات من مصادرها الصناعية إلى الغابات التي تبعد عن تلك المصادر بمئات الكيلومترات يعرض هذه النظم الإيكولوجية، بالإضافة إلى ذلك، إلى شكل آخر من الإجهاد.
ففي أواخر السبعينيات من هذا القرن، أوحى تغير لون أوراق الشجر الإبرية ومعدلات النمو المتدهورة في غابات شمال شرق بافاريا بجمهورية ألمانيا الاتحادية للعلماء بأن الترسب الحمضي وأوزون المستوى الأرضي، الناتج من التفاعلات الكيميائية الداخلة في الترسب الحمضي، يقومان بدور رئيسي فيما صار معروفا ",بموت الغابات",. وبحلول أوائل الثمانينيات اعتبر ما بين 20% و 25% من الغابات الأوروبية قد أصيب بضرر وخيم أو متوسط. وفي أواخر الثمانينيات هبط معدل التدهور. وأسباب الضرر غير واضحة تماما. وفي الولايات المتحدة، تحوم الشبهة حول انتقال ملوثات الهواء مسافات بعيدة في أنه يسهم في تدهور الصحة الغابية، بغابة سان برناردينو الوطنية بكاليفورنيا، والغابات الصنوبرية بالجنوب الشرقي، وغابات أعالي الجبال بسلسلة الجبال الأبلاشية.
إن الأشجار جميعا تعاني إجهادا يثقلها في شكل أمراض وحشرات وأحوال طقسية متطرفة ومنافسة الأشجار الأخرى في الحصول على الضوء والمغذيات والماء. وعندما يصبح الإجهاد المتراكم مفرط الشدة، تزيد هشوشة الأشجار وحساسيتها للآفات الانتهازية أو الأذى من أحوال الطقس المتطرفة. وفي النهاية، يهبط معدل نمو الشجرة، وإذا بلغ الإجهاد مبلغا عظيما من الشدة فإن الشجرة تموت.
وإذا كانت تركيزات ملوثات الهواء كأوزون المستوى الأرضي وثاني أكسيد الكبريت مرتفعة بالقدر الكافي، فيمكنها الإضرار بأوراق الشجرة عندما تلامسها مباشرة. ويمكن أن يعمل الترسب الحمضي بطريق غير مباشرة فيستنزف المغذيات، التي لا غنى عنها لنمو الشجرة، من التربة، ويرفع مستويات الفلزات السامة كالألمنيوم ، ويغير عمليات الأداء الوظيفي السوي والنمو. ونظرا لأن السحب يمكن أن تحتوي على تركيزات عالية من الأوزون والأحماض، ولأن الترب رقيقة نسبيا في الارتفاعات العالية، فإن التأثيرات في الغابات تكون واضحة إلى أبعد حد في الارتفاعات العالية حيث تلامس السحب والضباب الأشجار مباشرة.
وإنه ليصعب التمييز بين الضرر الذي يلحق بالأشجار من عوامل طبيعية وبين ما تسببه ملوثات الهواء. ولقد أخذ الضرر الذي لحق بالغابات في أمريكا الشمالية في الاعتبار في التحليلات التي أجريت حديثا، وعلى الأخص ما قدم به برنامج الحكومة الأمريكية الوطني لتقييم الترسب الحمضي، كما أجريت محاولة لكشف النقاب عن الأسباب. ولقد استحوذت البيسية الحمراء، التي تنمو على ارتفاعات عالية في شمال سلسلة الجبال الأبلاشية وفي شرق الولايات المتحدة، على اهتمام خاص لأن تحاليل حلقات الأشجار أظهرت أن معدل نمو الأشجار هبط هبوطا كبيرا خلال الربع الماضي من القرن، وأن ما يزيد على نصف أشجار البيسية الحمراء الناضجة في الارتفاعات العالية بجبال أديرونداك والجبال الخضراء قد ماتت. وفي نيويورك وفيرمونت ونيو هامبشاير أخذت مجموعات أشجار البيسية الحمراء في التدهور فيما بين أواخر الخمسينيات ومنتصف الستينيات. إن الإجهاد الناتج عن العوامل الطبيعية عظيم عند الارتفاعات العالية، ولكن العلماء ركزوا الآن دراستهم على تأثيرات ماء السحب الحمضي وأوزون المستوى الأرضي اللذين قد يضاعفا الإجهادات الأخرى إلى الحد الذي لا تستطيع عنده البيسية الحمراء البقاء. وارتكازا على التفسير العلمي الحالي، فإن التفاعل بين الضرر من ملوثات الهواء والسوس يبدو سببا محتملا لتدهور البيسية في الغابات الجبلية في الشمال الشرقي.
ولقد أدت البحوث الحديثة إلى نظريات جديدة لتدهور البيسية النرويجية في وسط أوروبا. ففي جامعة بايروث بألمانيا، قام فريق من علماء الغابات بقيادة إرنست – دتلف شولتز ببحث واسع النطاق عن أسباب الموت في غابة البيسية البفارية، ولكنه لم يهتد إلى عامل مسؤول بمفرده. وأوحت دراسة الفريق بأن الترسب الجوي – مركبات النيتروجين على وجه الخصوص – يوجد تدريجيا اختلالات تغذوية في الأشجار والترب. وفي النهاية تعوز المغذيات الهامة مثل المغنيسيوم الأشجار فتزيد حساسيتها للآفات وللطقس المتطرف كالجفاف. وطبقا لفرضية وضعها شولتز، إن الأعراض المرئية لتدهور الغابات الواضحة منذ أواخر السبعينيات تعكس هذه المجموعة من الظروف.
وقد تعمل التغيرات في المناخ، التي تحدث نتيجة للتأثير الصوبي، على زيادة الإجهادات التي تثقل بها ملوثات الهواء الغابات. والطقس، بالطبع، عامل متحكم في الفترات القصيرة كالفصول، ولكن التغيرات الطويلة الأجل في درجات الحرارة والتساقط لن يقتصر تأثيرها على أين تترسب المواد الحمضية والسرعة التي يتم بها هذا الترسب فحسب بل من شأنها أيضا أن تغير الظروف البيئية للأشجار