[right] >> بيت قديم يروي قصته <<
عندما ينسج المرء ثياب مذكراته السوداء ويحيك بها وشاح من اللؤلؤ الأبيض , يبقى هنالك خيط مشع يلتصق بثنايا الروح , لعله الخيط الذي يذكرني بتلك البقعة من الأرض , بقعةٌ تعانق الروح والجسد يما يغمرها من عاطفية , بقعة غامضة ولكنها تظهر أشعة نفسها من خلال نسيج خطوطها, كخطوط شجرة مزهرة من وراء ضباب الصباح , في تلك البقعة الجميلة من الأرض يوجد بيت منفرد تحيط به الأشجار من كل الزوايا, تعانقه الأزهار برائحة الفل والياسمين , بيت صنع من الطين – الطين الذي خلقوا منه أصحاب ذلك البيت , وكأنهم كانوا يسكنون في الطيب والطين يسكن بهم , فكانت نفوسهم تشبه ورقة رقيقة تمسح دمعات الغيوم , إلى أن تلاشت النفوس مع الزمن وأصبحت تحت التراب , حقا أن الإنسان كائن من التراب خرج وعلى التراب عاش ومع التراب تعامل والى التراب سيعود , فأصبحت أسمائهم مجرد ذكرى منقوشة على جدران ذلك البيت , ويبدو أن البيوت على أشكالها تقع . كان ذلك البيت كأنه أجمل لؤلؤة في عقد يبرز أنوثة المرأة , عند الشروق كانت تغمره أشعة الشمس وتشرق معها آمال جديدة , وعند الغروب كانت الشمس تودعه بابتسامة تتلاشى شيئا فشيئا من وراء ستائر الغيوم على أمل اللقاء في اليوم القادم , بيت إذا رأيته ترى به سرا سحريا يلحق بك على أجنحة الطيور الغابرة , بيت لا استطع وصفه وصفا دقيقا , لكن أعلم أن هذا البيت كانت تعانقه رنة الإخلاص , لحن الحب , نغمة الثقة , ورشفة العبرات..فكيف لي أن اصف ذلك البيت لمن لم يعرفه ولم يشاهده من قبل ؟!
هل يستطيع الأسير من خلف القضبان أن يركض وراء نسمات الهواء الطلق؟
أليس الصمت أجمل من الكلام ؟ فارسموا أمام ناظريكم هذا البيت الجميل , وزينوه بكل ما تملك الأرض من جمال , واغمروه بكل الحب والإخلاص , ولا تنسوا أن تلونوه بأجمل ألوان الكون.
كانت رهف بالسابعة عشر ربيعا عندما سقطت عليها قطرات الحب, فقد أدركت أنه أتى الحب ليبدل وحشة أيامها بالإنس والحنان, وسكون الليل الألحان والأنغام, قد أحبت فتى وسيم المظهر, طويل القامة. نحيف الجسم , أحبت من مَلك مفاتيح قلبها , انه فارس , وبالفعل كان فارس أحلامها , وأيضا هو كان يبادلها الشعور نفسه , فأحب رهف حبا جنونيا , تلك الفتاة نحيلة الجسم التي تظهر من بين ملابسها الحريرية البيضاء كأنها القمر المشع في سواد الليل , وكان صوتها يتسرب برقة من بين شفتيها تسرب قطرات الندى على أوراق الزهور المخملية, وكان نور مقلتيها يبعث بريقا سحريا , وشعرها الأدهم الحريري كان ينسدل على منكبيها كاليم المتموج , وأسليها الورديين كانا كأنهما الورد ألجوري من بين الأشواك المؤلمة.
قد غمرتهم أحضان السعادة كالأم التي تغمر طفلها بشوق وحنان, فعندما كانوا يلتقون كانت تتنفس الأبجدية في أنفسهم وتنفتح عليهم أبواب الكتابة, وكان كلٌ منهم شاعر الحب يكتب ما يحلو له من عذب الكلمات والعبارات,
كانا معا رمزا لكل شيء يتسامران معا , يشاركان أفراحهم وأتراحهم معا , عاشقان جمع القدر بينهم فألف قلوبهم حتى من يراهم يظنهم أخوة , عاهدا أنفسهم على أن لا يفترقا ويظلا معا إلى نهاية المطاف.
طوت الحياة صفحاتها فتقدم فارس ليطلب يد مالكة قلبه رهف , فاصطحب والده وذهبا إلى بيت رهف هادفين اتخاذها عروسا للنجل فارس , كانوا أهل رهف يعلمون بالحب الذي كان يجمع بين فارس ورهف فحتما وافقوا على هذا الطلب , فطارت أفكار فارس فرحا , تراقصت نبضات فؤاده وتمايلت شهقات نفسه , وأبحر بين عباب بحار المستقبل المزدهر , وعزفت أنامله سيمفونية الحب الخالد , اتجه لرهف وقال لها:
(( وليلة ٌ أبت الظلمات أن تسكن بها بل غمرها الضياء..
وكأنها ليلة ربيعٍ ينطلق بها النسيم مع الهواء..
وأنا أسعد الناس, أقف على القمم الشماء..
قد حل الربيع في فؤادي وملء روحي بالصفاء..
ها أنا سوف أصبح قرينك يا من نعتك بأحسن الأوصاف والأسماء..
سأصبر..نعم ..سأصبر برهة لنكن أنا وأنت طلقاء..
قد أوشك حلمي أن يتحقق من بعد صبر وعناء..
إني أرى خديك الموردين من شدة الحياء..
رُب حب قتل قلبي فأنت داءه وأنت له دواء..
رسمتك أمام مقلتي وأنت عروس تتجلى بحلة بيضاء..
فإنك حور عين.. ممشوقة..رائعة.. هيفاء..
عرفتك لطيفة رقيقة وسخية العطاء..
فلتبقي هكذا يا حبيبتي حتى ترتفع روحنا لفاطر الأرض والسماء..
أحبك..
أعشقك..أيتها الحسناء...! ))
وبات فارس هذه الليلة غارق وهو يشعر بألوان الطمأنينة تلون لوحة المستقبل القادم.
ومرت الأيام وكأنها في سباق مع الزمن, أنفاس تخرج, ودقات تتسارع, وحان موعد زفاف فارس ورهف قد وصلوا العاشقين إلى مبتغاهم الذي انتظروه طويلا , دقت ساعات الفرح , وقد يصعب علي وصف الفرحة التي عاشوها أولئك الذين عزفوا على قيثارة اللذة والقلب الملتهب والنفس المفتونة , دموع الفرحة قد غمرت أعين رهف وغسلت وجنتاها , فقد طمرت عظام الماضي التي طال...
وما ذهبت السنين وتوالت حتى بدأت آلام المخاض تظهر على رهف , فنقلت إلى المستشفى وبدئوا الأطباء بالقيام بواجباتهم تجاه المسكينة رهف.
خلال ساعات الانتظار الطويلة , حيث تمزق سكون الليل الموحش من صرخات رهف بفعل آلام المخاض الموجعة , كان فارس يذرع المكان ذهابا وإيابا في غرفة الانتظار , وقد تولد قلبه قلقا عميق , فارتعشت عظامه , وأقشعر جلده, انه ما بين فرح وحزن , فان الفرح والحزن متلازمان لا وجود للواحد دون الآخر , فهما من الحياة بمثابة الليل والنهار .. فلا نهار دون الليل ولا ليل دون النهار , وكما قال شاعرنا والفيلسوف العظيم جبران خليل جبران :" الفرح والترح توأمان لا ينفصلان يأتيان معا ويذهبان معا" .
وكان فارس في تلك الليلة كأنه جرم سماويا يموت !!
مرت الساعات ولكن وضع رهف ليست بحالة جيدة بل سيئة جدا , فان ولادتها كانت عسيرة وهي بحالة خطيرة , جسدها أصبح هزيل وربما في أية لحظة يصيبها الخطر الذي يقودها لارتداء ثوب الردى.
استفاق الحزن في قلب فارس في ذلك المساء , وبنانه يمسح آثار دموعه , وأصبحت كلماته نغمات من سكون , وحروفه مثل أفكار الخشوع , فتارة كان يتردد على رهف ليطمئن عليها , وكلما رآها تمزق قلبه حزنا , لكنه كان يشجعها على تخطي هذه الصعاب الخطيرة , وطورا كان يتردد على الأطباء ليرى نتائج الفحوصات لعله يسمع خبر جيد ويبعث الأمل بالروح الهائمة , وبعد تعب وقلق رهيب , قد أتت اللحظة الجائرة , وأتى خبرٌ يبكي الصخور ..
قد فارقت الحياة..
نعم..رهف فارقت الحياة..
فأخبر الأطباء فارس بهذا الخبر الصاعق ... لم يستوعب فارس ما قيل له وصرخ بأعلى صوته " لا مـــش مــمــكــن..!!! رهف ما بتتركني..!!" وبدأ بالبكاء..
تلاطمت أفكار فارس بين عباب البحار , وأصبحت الحياة بعينه قاعا صفصفا لا لذة لها ولا عاطفة , فسالت العبرات من مقلاته وبكى بكاء مريرا.. وباتت روحه هائمة لا يعلم ما مبتغاه من الحياة , فصار يرى الضوء ظلام دامس , قد رمت به الأقدار للتهلكة.
قد فارقته مالكة قلبه . وجرح قلبه من قسوة القدر..
قلب نبض بكل الحب المخلوق على وجه الأرض..
قلب أحس أن الكون لا يكفي للحب النابض به..
قلبا صرخ بأقوى نبضاته معلنا الحب..
وصمت بكل ضجيج الصمت المسموح والممنوع..
قلب علم الشفاه كيف تهمس كلمة أ- ح – ب – ك...
والتهم وفاء العالم كله بمجرد نبضه كلمة احبك..
قلب تحمل آلام الدنيا من أجل عشق طاهر..
فعوقب بالتجريح المؤبد..
والألم الصارخ..
قلب لم يحتمل كل هذه المعاناة..
فهو لا يزال يشعل فتيل الحب ليحرق أوردته..
ويحيط أجمل الذكريات ليطفئ لهيب البعد ويهدي صقيع الشوق..
قلب يهذي بكلمات الحب والشوق والفراق..الواردة وغير الواردة في قواميس العشق..
قد فتح الشتاء أبواب الربيع الموصدة.. واجتاحها وقطن هناك.. وأظلم جميع الأماكن.. فان فارس فارق رهف ولم يفارقها .. فإنها صمتت ولكن صوتها بقي بأذنه, وغابت لكن صورتها بقيت في عينه, ورحلت لكن أنفاسها في قلبه, واختفت ولكن طيفها بقي معه..وكأن قلب فارس يصرخ " أرجوك يا رهف عودي" ولكن فات الأوان وليس لها أن تبقى في هذه الحياة , فلا بد من الرحيل .
قد شعر فارس انه المذنب في موت رهف المفاجئ, فشيعها بقلبه, وتذوق مرارة الحياة, تركته رهف يبكي بين أربعة جدران, فان هذه الجدران الوحيدة الشاهدة على حزنه..
بعد عدة أسابيع.. دق باب البيت الذي يسكن به فارس.. انه أخ فارس أتى ليطمئن عليه.. لكن ليس من مجيب..حاول فتح الباب..ففتح..دخل..وإذ به يرى فارس مرتميا على الأرض لا يحرك ساكنا..فحمله أخوه إلى المستشفى..وبعد عدة فحوصات اتضح انه يعاني من إرهاق وتعب شديد ..ولم يستطع فارس مقاومة هذا التعب..فتعرض جسمه لعدة أمراض..مرت الأسابيع..واشتد المرض على فارس, وفي ليلة ظلماء يفتقد بها البدر قد مات فارس وعلى ثغره رسمت ابتسامة الفرح للقاء رهف.
قد مات فارس الذي أحب رهف من المهد إلى اللحد, أحبها بكل طاقات الحب الموجودة في الكون..
فها هم التقوا ثانية ولكن تحت التراب.. فتعانقت أرواحهم, وتشابكت ذكرياتهم, وباتوا تحت التراب الحالك الواحد جانب الآخر..
بيتهم شاهد على أسطورة الحب الطاهر الأمين..
شاهد على ذكريات أيام كانوا عاشقين..
شاهد على أفراح وأتراح حدثت على مر السنين..
بين شاهد على موت أم بسبب جنين..
بيت سمع صرخات فارس من شدة الألم والأنين..
بيت كان مفعم بالحب والعشق والحنين..
ولكن أصحابه باتوا تحت التراب نائمين..
فليبقى هذا البيت ذكرى لأسطورة شامخة بعشقها لأبد الآبدين..
بقــلــم : رنـــــاد